فصل: تفسير الآية رقم (68):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (60- 62):

{لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ} الآية. أهل التفسير على أن الأوصاف الثلاثة لشيء واحد، كما روى سفيان بن سعيد عن منصور عن أبي رزين قال: {الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} قال هم شيء واحد، يعني أنهم قد جمعوا هذه الأشياء. والواو مقحمة، كما قال:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

أراد إلى الملك القرم ابن الهمام ليث الكتيبة، وقد مضى في البقرة.
وقيل: كان منهم قوم يرجفون، وقوم يتبعون النساء للريبة وقوم يشككون المسلمين. قال عكرمة وشهر بن حوشب: {الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} يعني الذين في قلوبهم الزنى.
وقال طاوس: نزلت هذه الآية في أمر النساء.
وقال سلمة بن كهيل: نزلت في أصحاب الفواحش، والمعنى متقارب.
وقيل: المنافقون والذين في قلوبهم مرض شيء واحد، عبر عنهم بلفظين، دليله آية المنافقين في أول سورة البقرة. والمرجفون في المدينة قوم كانوا يخبرون المؤمنين بما يسوءهم من عدوهم، فيقولون إذا خرجت سرايا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنهم قد قتلوا أو هزموا، وإن العدو قد أتاكم، قال قتادة وغيره. وقيل كانوا يقولون: أصحاب الصفة قوم عزاب، فهم الذين يتعرضون للنساء.
وقيل: هم قوم من المسلمين ينطقون بالأخبار الكاذبة حبا للفتنة. وقد كان في أصحاب الافك قوم مسلمون ولكنهم خاضوا حبا للفتنة.
وقال ابن عباس: الإرجاف التماس الفتنة، والإرجاف: إشاعة الكذب والباطل للاغتمام به.
وقيل: تحريك القلوب، يقال: رجفت الأرض- أي تحركت وتزلزلت- ترجف رجفا. والرجفان: الاضطراب الشديد. والرجاف: البحر، سمي به لاضطرابه. قال الشاعر:
المطعمون اللحم كل عشية ** حتى تغيب الشمس في الرجاف

والإرجاف: واحد أراجيف الاخبار. وقد أرجفوا في الشيء، أي خاضوا فيه. قال الشاعر:
فإنا وإن عيرتمونا بقتله ** وأرجف بالإسلام باغ وحاسد

وقال آخر:
أبالأراجيف يا ابن اللؤم توعدني ** وفي الأراجيف خلت اللؤم والخور

فالارجاف حرام، لان فيه أذائه. فدلت الآية على تحريم الإيذاء بالإرجاف.
الثانية: قوله تعالى: {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي لنسلطنك عليهم فتستأصلهم بالقتل.
وقال ابن عباس: لم ينتهوا عن إيذاء النساء وأن الله عز وجل قد أغراه بهم. ثم إنه قال عز وجل: {وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ} [التوبة: 84] وإنه أمره بلعنهم، وهذا هو الإغراء، وقال محمد بن يزيد: قد أغراه بهم في الآية التي تلي هذه مع اتصال الكلام بها، وهو قوله عز وجل: {أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا}. فهذا فيه معنى الأمر بقتلهم وأخذهم، أي هذا حكمهم إذا كانوا مقيمين على النفاق والإرجاف.
وفي الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خمس يقتلن في الحل والحرم». فهذا فيه معنى الامر كالآية سواء. النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية.
وقيل: إنهم قد انتهوا عن الإرجاف فلم يغر بهم. ولام {لَنُغْرِيَنَّكَ} لام القسم، واليمين واقعة عليها، وأدخلت اللام في {إن} توطئة لها.
الثالثة: قوله تعالى: {ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها} أي في المدينة. {إِلَّا قَلِيلًا} نصب على الحال من الضمير في {يُجاوِرُونَكَ}، فكان الامر كما قال تبارك وتعالى، لأنهم لم يكونوا إلا أقلاء. فهذا أحد جوابي الفراء، وهو الأولى عنده، أي لا يجاورونك إلا في حال قلتهم. والجواب الآخر- أن يكون المعنى إلا وقتا قليلا، أي لا يبقون معك إلا مدة يسيرة، أي لا يجاورونك فيها إلا جوارا قليلا حتى يهلكوا، فيكون نعتا لمصدر أو ظرف محذوف. ودل على أن من كان معك ساكنا بالمدينة فهو جار. وقد مضى في النساء.
الرابعة: قوله تعالى: {مَلْعُونِينَ} هذا تمام الكلام عند محمد بن يزيد، وهو منصوب على الحال.
وقال ابن الأنباري: {قَلِيلًا مَلْعُونِينَ} وقف حسن. النحاس: ويجوز أن يكون التمام {إِلَّا قَلِيلًا} وتنصب {مَلْعُونِينَ} على الشتم. كما قرأ عيسى بن عمر: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ}. وقد حكي عن بعض النحويين أنه قال: يكون المعنى أينما ثقفوا أخذوا ملعونين. وهذا خطأ لا يعمل ما كان مع المجازاة فيما قبله وقيل: معنى الآية إن أصروا على النفاق لم يكن لهم مقام بالمدنية إلا وهم مطرودون ملعونون. وقد فعل بهم هذا، فإنه لما نزلت سورة براءة جمعوا، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا فلان قم فاخرج فإنك منافق ويا فلان قم» فقام إخوانهم من المسلمين وتولوا إخراجهم من المسجد.
الخامسة: قوله تعالى: {سُنَّةَ اللَّهِ} نصب على المصدر، أي سن الله عز وجل فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يؤخذ ويقتل. {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا} أي تحويلا وتغييرا، حكاه النقاش.
وقال السدي: يعني أن من قتل بحق فلا دية على قاتله.
المهدوي: وفي الآية دليل على جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات. والمعروف من أهل الفضل إتمام وعدهم وتأخير وعيدهم، وقد مضى هذا في آل عمران وغيرها.

.تفسير الآية رقم (63):

{يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63)}
قوله تعالى: {يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} هؤلاء المؤذون لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما توعدوا بالعذاب سألوا عن الساعة، استبعادا وتكذيبا، موهمين أنها لا تكون. {قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ} أي أجبهم عن سؤالهم وقل علمها عند الله، وليس إخفاء الله وقتها عني ما يبطل نبوتي، وليس من شرط النبي أن يعلم الغيب بغير تعليم من الله عز وجل. {وَما يُدْرِيكَ} أي ما يعلمك. {لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً} أي في زمان قريب.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت أنا والساعة كهاتين} وأشار إلى السبابة والوسطى، خرجه أهل الصحيح.
وقيل: أي ليست الساعة تكون قريبا، فحذف هاء التأنيث ذهابا بالساعة إلى اليوم، كقوله: {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] ولم يقل قريبة ذهابا بالرحمة إلى العفو، إذ ليس تأنيثها أصليا. وقد مضى هذا مستوفي.
وقيل: إنما أخفى وقت الساعة ليكون العبد مستعدا لها في كل وقت.

.تفسير الآيات (64- 65):

{إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65)}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ} أي طردهم وأبعدهم. واللعن: الطرد والابعاد عن الرحمة. وقد مضى في البقرة بيانه. {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً خالِدِينَ فِيها أَبَداً} أنث السعير لأنها بمعنى النار. {لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً} ينجيهم من عذاب الله والخلود فيه.

.تفسير الآيات (66- 67):

{يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)}
قوله تعالى: {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} قراءة العامة بضم التاء وفتح اللام، على الفعل المجهول وقرأ عيسى الهمداني وابن إسحاق: {نقلب} بنون وكسر اللام. {وجوههم} نصبا. وقرأ عيسى أيضا: {تقلب} بضم التاء وكسر اللام على معنى تقلب السعير وجوههم. وهذا التقليب تغيير ألوانهم بلفح النار، فتسود مرة وتخضر أخرى. وإذا بدلت جلودهم بجلود أخر فحينئذ يتمنون أنهم ما كفروا {يَقُولُونَ يا لَيْتَنا} ويجوز أن يكون المعنى: يقولون يوم تقلب وجوههم في النار يا ليتنا. {أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا} أي لم نكفر فننجو من هذا العذاب كما نجا المؤمنون. وهذه الالف تقع في الفواصل فيوقف عليها ولا يوصل بها. وكذا {السَّبِيلَا} وقد مضى في أول السورة. وقرأ الحسن: {إنا أطعنا ساداتنا} بكسر التاء، جمع سادة. وكان في هذا زجر عن التقليد. والسادة جمع السيد، وهو فعلة، مثل كتبة وفجرة. وساداتنا جمع الجمع. والسادة والكبراء بمعنى.
وقال قتادة: هم المطعمون في غزوة بدر. والأظهر العموم في القادة والرؤساء في الشرك والضلالة، أي أطعناهم في معصيتك وما دعونا إليه {فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا} أي عن السبيل وهو التوحيد، فلما حذف الجار وصل الفعل فنصب. والإضلال لا يتعدى إلى مفعولين من غير توسط حرف الجر، كقوله: {لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ} [الفرقان: 92]

.تفسير الآية رقم (68):

{رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68)}
قوله تعالى: {رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ} قال قتادة: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة.
وقيل: عذاب الكفر وعذاب الإضلال، أي عذبهم مثلي ما تعذبنا فإنهم ضلوا وأضلوا. {وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً} قرأ ابن مسعود وأصحابه ويحيى وعاصم بالباء. الباقون بالثاء، واختاره أبو حاتم وأبو عبيد والنحاس، لقوله تعالى: {أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] وهذا المعنى كثير.
وقال محمد بن أبي السري: رأيت في المنام كأني في مسجد عسقلان وكان رجلا يناظرني فيمن يبغض أصحاب محمد فقال: وألعنهم لعنا كثيرا، ثم كررها حتى غاب عني، لا يقولها إلا بالثاء. وقراءة الباء ترجع في المعنى إلى الثاء، لان ما كبر كان كثيرا عظيم المقدار.

.تفسير الآية رقم (69):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69)}
لما ذكر الله تعالى المنافقين والكفار الذين آذوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والمؤمنين، حذر المؤمنين من التعرض للإيذاء، ونهاهم عن التشبه ببني إسرائيل في أذيتهم نبيهم موسى. واختلف الناس فيما أوذي به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وموسى، فحكى النقاش أن أذيتهم محمدا عليه السلام قولهم: زيد بن محمد.
وقال أبو وائل: أذيته أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسم قسما فقال رجل من الأنصار: إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغضب وقال: «رحم الله موسى لقد أوذي لقد أوذي بأكثر من هذا فصبر». وأما أذية موسى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال ابن عباس وجماعة: هي ما تضمنه حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك أنه قال: «كان بنو إسرائيل يغتسلون عراة وكان موسى عليه السلام يتستر كثيرا ويخفى بدنه فقال قوم هو آدر وأبرص أو به آفة، فانطلق ذات يوم يغتسل في عين بأرض الشام وجعل ثيابه على صخرة ففر الحجر بثيابه واتبعه موسى عريانا يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى انتهى إلى ملا من بني إسرائيل فنظروا إليه وهو من أحسنهم خلقا وأعدلهم صورة وليس به الذي قالوا فهو قوله تبارك وتعالى: {فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا}». أخرجه البخاري ومسلم بمعناه.
ولفظ مسلم: قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «كانت بنو إسرائيل يغتسلون عراة ينظر بعضهم إلى سوءة بعض وكان موسى عليه السلام يغتسل وحده فقالوا والله ما يمنع موسى أن يغتسل معنا إلا أنه آدر قال فذهب يوما يغتسل فوضع ثوبه على حجر ففر الحجر بثوبه قال فجمح موسى عليه السلام بإثره يقول ثوبي حجر ثوبي حجر حتى نظرت بنو إسرائيل إلى سوءة موسى وقالوا والله ما بموسى من بأس فقام الحجر حتى نظر إليه قال فأخذ ثوبه فطفق بالحجر ضربا».
قال أبو هريرة: والله إنه بالحجر ندب ستة أو سبعة ضرب موسى بالحجر. فهذا قول. وروي عن ابن عباس عن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أنه قال: آذوا موسى بأن قالوا: قتل هارون، وذلك أن موسى وهرون خرجا من فحص التيه إلى جبل فمات هارون فيه، فجاء موسى فقالت بنو إسرائيل لموسى: أنت قتلته وكان ألين لنا منك وأشد حبا. فآذوه بذلك فأمر الله تعالى الملائكة فحملته حتى طافوا به في بني إسرائيل، ورأوا آية عظيمة دلتهم على صدق موسى، ولم يكن فيه أثر القتل. وقد قيل: إن الملائكة تكلمت بموته ولم يعرف موضع قبره إلا الرخم، وإنه تعالى جعله أصم أبكم. ومات هارون قبل موسى في التيه، ومات موسى قبل انقضاء مدة التيه بشهرين.
وحكى القشيري عن علي بن أبي طالب رضى الله تعالى عنه: أن الله تعالى أحيا هارون فأخبرهم أنه لم يقتله، ثم مات. وقد قيل: إن أذية موسى عليه السلام رميهم إياه بالسحر والجنون. والصحيح الأول. ويحتمل أن فعلوا كل ذلك فبرأه الله من جميع ذلك. مسألة: في وضع موسى عليه السلام ثوبه على الحجر ودخوله في الماء عريانا- دليل على جواز ذلك، وهو مذهب الجمهور. ومنعه ابن أبي ليلى واحتج بحديث لم يصح، وهو قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تدخلوا الماء إلا بمئزر فإن للماء عامرا». قال القاضي عياض: وهو ضعيف عند أهل العلم. قلت: أما إنه يستحب التستر لما رواه إسرائيل عن عبد الأعلى أن الحسن بن علي دخل غديرا وعليه برد له متوشحا به، فلما خرج قيل له، قال: إنما تسترت ممن يراني ولا أراه، يعني من ربي والملائكة. فإن قيل: كيف نادى موسى عليه السلام الحجر نداء من يعقل؟ قيل: لأنه صدر عن الحجر فعل من يعقل. و«حجر» منادى مفرد محذوف حرف النداء، كما قال تعالى: {يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا} [يوسف: 29]. و«ثوبي» منصوب بفعل مضمر، التقدير: أعطني ثوبي، أو اترك ثوبي، فحذف الفعل لدلالة الحال عليه. قوله تعالى: {وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} أي عظيما. والوجيه عند العرب: العظيم القدر الرفيع المنزلة. ويروى أنه كان إذا سأل الله شيئا أعطاه إياه. وقرأ ابن مسعود: {وكان عبدا لله}.
وقيل: معنى {وَجِيهاً} أي كلمه تكليما. قال أبو بكر الأنباري في كتاب الرد: زعم من طعن في القرآن أن المسلمين صحفوا {وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} وأن الصواب عنده {وكان عبدا لله وجيها} وذلك يدل على ضعف مقصده ونقصان فهمه وقلة علمه، وذلك أن الآية لو حملت على قوله وقرئت: {وكان عبدا} نقص الثناء على موسى عليه السلام، وذلك أن {وَجِيهاً} يكون عند أهل الدنيا وعند أهل زمانه وعند أهل الآخرة، فلا يوقف على مكان المدح، لأنه إن كان وجيها عند بني الدنيا كان ذلك إنعاما من الله عليه لا يبين عليه معه ثناء من الله. فلما أوضح الله تعالى موضع المدح بقوله: {وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً} استحق الشرف وأعظم الرفعة بأن الوجاهة عند الله، فمن غير اللفظة صرف عن نبي الله أفخر الثناء وأعظم المدح.